سورة المائدة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
{يَهْدِى بِهِ الله} توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات، أو لكونهما في حكم الواحد، أو لكون المراد يهدي بما ذكر، وتقديم المجرور للاهتمام نظرًا إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب، أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة. جوز أبو البقاء أن تكون حالًا من {رَسُولِنَا} بدلًا من {يُبِينُ} [المائدة: 15] وأن تكون حالًا من الضمير في {يُبِينُ}، وأن تكون حالًا من الضمير في {مُّبِينٌ}، وأن تكون صفة لنور {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله تعالى بالإيمان به، و{مِنْ} موصولة أو موصوفة {سُبُلَ السلام} أي طرق السلامة من كل مخافة قاله الزجاج فالسلام مصدر عنى السلامة. وعن الحسن والسدي أنه اسمه تعالى، ووضع المظهر موضع المضمر ردًا على اليهود والنصارى الواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا، والمراد حينئذٍ بسبله تعالى شرائعه سبحانه التي شرعها لعباده عز وجل، ونصبها قيل: على أنها مفعول ثان ليهدي على إسقاط حرف الجر نحو {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]. وقيل: إنها بدل من رضوان بدل كل من كل، أو بعض من كل أو اشتمال، والرضوان بكسر الراء وضمها لغتان، وقد قرئ بهما، والسبل بضم الباء والتسكين لغة، وقد قرئ به.
{وَيُخْرِجُهُمْ} الضمير المنصوب عائد إلى {مِنْ} والجمع باعتبار المعنى كما أن إفراد الضمير المرفوع في {أَتَّبِعُ} باعتبار اللفظ. {مِنَ الظلمات إِلَى النور} أي من فنون الكفر والضلال إلى الإيمان {بِإِذْنِهِ} أي بإرادته أو بتوفيقه. {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} وهو دين الإسلام الموصل إلى الله تعالى كما قال الحسن وفي إرشاد العقل السليم وهذه الهداية عين الهداية إلى {سُبُلَ السلام} وإنما عطفت عليها تنزيلًا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58].
وقال الجبائي: المراد بالصراط المستقيم طريق الجنة.


{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} لا غير المسيح كما يقال: الكرم هو التقوى، وأن الله تعالى هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب، فالقصر هنا للمسند إليه على المسند بخلاف قولك: زيد هو المنطلق فإن معناه لا غير زيد، والقائلون لذلك على ما هو المشهور هم اليعقوبية المدعون بأن الله سبحانه قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه. وقيل: لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتًا مع تصريحهم بالوحدة، وقولهم: لا إله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم توضيحًا لجهلهم وتفضيحًا لمعتقدهم، وقال الراغب: فإن قيل: إن أحدًا لم يقل الله تعالى هو المسيح وإن قالوا المسيح هو الله تعالى وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن يقال المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت كما صح أن يقال: الإنسان هو حيوان مع تركبه من العناصر، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو المسيح كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان، قيل: إنهم قالوا: هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى عليه الصلاة والسلام؟ فقال أحدهم: أو تعلمون أحدًا يحيي الموتى إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: أو تعلمون أحدًا يبرىء الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ قالوا: لا، قالوا: فما الله تعالى إلا من هذا وصفه أي حقيقة الآلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيد أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قولهم: إن الله تعالى هو المسيح انتهى، وأنت تعلم أنه مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في المسيح كما هو ظاهر النظم لا يرد شيء.
{قُلْ} يا محمد تبكيتًا لهم وإظهارًا لبطلان قولهم الفاسد وإلقامًا لهم الحجر، وقد يقال: الخطاب لكل من له أهلية ذلك، والفاء في قوله تعالى: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا} عاطفة على مقدر، أو جواب شرط محذوف، و{مِنْ} استفهامية للإنكار والتوبيخ، والملك الضبط والحفظ التام عن حزم، والمراد هنا فمن يمنع أو يستطيع كما في قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أملك رأس البعير إن نفرا
و{مِنَ الله} متعلق به على حذف مضاف أي ليس الأمر كذلك، أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئًا {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الارض جَمِيعًا} ومن حق من يكون إلهًا أن لا يتعلق به ولا بشأن من شؤونه، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره فضلًا عن أن يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه، فلما كان عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه عزل عما تقولون فيه.
والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقًا لا عن سخط وغضب، وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز المسيح، ولعل نظمها في سلك من فرض إرادة إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجًا لحال بقية من فرض إهلاكه، وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة والسلام لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى لا يقدر أحد على دفع ما أريد به فضلًا عما أريد بغيره، وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية. قاله المولى أبو السعود، و{جَمِيعًا} حال من المتعاطفات، وجوز أن يكون حالًا من {مِنْ} فقط لعمومها.
وقوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ما بين طرفي العالم الجسماني فيتناول ما في السموات من الملائكة وغيرها، وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات، قيل: تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض كذلك أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجادًا وإعدامًا، وإحياءًا وإماتة لا لأحد سواه استقلالًا ولا اشتراكًا، فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه، وقيل: دليل آخر على نفي ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لو كان إلهًا كان له ملك السموات والأرض وما بينهما، وقيل: دليل على نفي كونه عليه الصلاة والسلام ابنًا ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم، ومن المعلوم أن المملوكية تنافي البنوة.
وقوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر المسيح عليه السلام لولادته من غير أب وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، و{مَا} نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية أي يخلق أي خلق يشاؤه، فتارة يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض مثلًا، وأخرى من أصل كخلق بعض ما بينهما وذلك متنوع أيضًا، فطورًا ينشىء من أصل ليس من جنسه كخلق آدم، وكثير من الحيوانات وتارة من أصل يجانسه إما من ذكر وحده كخلق حواء أو من أنثى وحدها كخلق عيسى عليه الصلاة والسلام أو منهما كخلق سائر الناس، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات ككثير من المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له.
وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فينبغي أن ينسب كل ذلك إليه تعالى لا من أجرى على يده قاله غير واحد. وقيل: إن الجملة جيء بها هاهنا مبينة لما هو المراد من قوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض} إلخ بحسب اقتضاء المقام، و{مَا} نصب على المصدرية أيضًا، وقيل: يجوز أن تكون موصولة ومحلها النصب على المفعولية أي يخلق الذي يشاء أن يخلقه، والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم الوجود، وعلى كل تقدير فقوله سبحانه: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} تذييل مقرر لمضمون ما قبله وإظهار الاسم الجليل لما مر من التعليل وتقوية استقلال الجملة.


{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}
{وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله} حكاية لما صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم، وبيان لبطلانها إثر ذكر ما صدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره وبيان بطلانها أي قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل، ومرادهم بالأبناء المقربون أي نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم، وبالأحباء جمع حبيب عنى محب أو محبوب، ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة، وأن يكون أرادوا أشياع من وصف بالبنوة أي قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير، وقالت النصارى: نحن أشياع ابنه المسيح عليهما السلام، وأطلق الأبناء على الأشياع مجازًا إما تغليبًا أو تشبيهًا لهم بالأبناء في قرب المنزلة، وهذا كما يقول أتباع الملك: نحن الملوك، وكما أطلق على أشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبون في قوله:
قدنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبِيْنَ قَدِي ***
على رواية من رواه بالجمع، فقد قال ابن السكيت: يريد أبا خبيب ومن كان معه، فحيث جاز جمع خبيب وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله عز اسمه وأشياع الابن بزعم الفريقين، فاندفع ما قيل: إنهم لا يقولون ببنوة أنفسهم ولم يحمل على التوزيع عنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء بجمع الإبنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب {بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} يأباه ظاهرًا ويدل على ادعائهم البنوة بأي معنى كان. وقيل: الكلام على حذف المضاف أي نحن أبناء أنبياء الله تعالى وهو خلاف الظاهر، وقائل ذلك من اليهود بعضهم، ونسب إلى الجميع لما مر غير مرة، فقد أخرج ابن جرير. والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن آص وبحرى بن عمرو وشاش بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله تعالى وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه، وقالت النصارى ذلك قبلهم، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية» وعن الحسن أن النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم فقالوا ما قالوا.
وعندي أن إطلاق ابن الله تعالى على المطيع قد كان في الزمن القديم، ففي التوراة قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى فرعون وقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك، وفيها أيضًا في قصة الطوفان أنه لما نظر بنو الله تعالى إلى بنات الناس وهم حسان جدًا شغفوا بهن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فولدوا جبابرة فأفسدوا فقال الله تعالى: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم، وأريد بأبناء الله تعالى أولاد هابيل، وبأبناء الناس أبناء قابيل، وكنّ حسانًا جدًا فصرفن قلوبهن عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الأوثان، وفي المزامير أنت ابني سلني أعطك، وفيها أيضًا أنت ابني وحبيبي، وقال شعيا في نبوته عن الله تعالى: تواصوا بي في أبنائي وبناتي يريد ذكور عباد الله تعالى الصالحين وإناثهم، وقال يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من «الرسالة الأولى» انظروا إلى محبة الأب لنا أن أعطانا أن ندعى أبناء وفي الفصل الثالث أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله تعالى فينبغي لنا أن ننزله في الإجلال على ما هو عليه فمن صح له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك الخطيئة والإثم، واعلموا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه وقال متى: قال المسيح: أحبوا أعداءكم، وباركوا على لاعنيكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا على من طردكم، كيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وقال يوحنا التلميذ في «قصص الحواريين»: يا أحبائي إنا أبناء الله تعالى سمانا بذلك، وقال بولس الرسول في «رسالته إلى ملك الروم»: إن الروح تشهد لأرواحنا أننا أبناء الله تعالى وأحباؤه، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وقد جاء أيضًا إطلاق الابن على العاصي ولكن عنى الأثر ونحوه، ففي «الرسالة الخامسة لبولس» إياكم والسفه والسب واللعب فإن الزاني والنجس كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله تعالى واحذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه، وإياكم أن تكونوا شركاء لهم فقد كنتم قبل في ظلمة فاسعوا الآن سعي أبناء النور.
ومقصود الفريقين بـ {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} هو المعنى المتضمن مدحًا، وحاصل دعواهم أن لهم فضلًا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق، فرد سبحانه عليهم ذلك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} إلزامًا لهم وتبكيتًا {فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم يوم القيامة بالنار أيامًا بعدد أيام عبادتكم العجل، وقد اعترفتم بذلك في غير ما موطن، وهذا ينافي دعواكم القرب ومحبة الله تعالى لكم أو محبتكم له المستلزمة لمحبته لكم كما قيل: ما جزاء من يحب إلا يحب، أو فلأيّ شيء أذنبتم بدليل أنكم ستعذبون، وأبناء الله تعالى إنما يطلق إن أطلق في مقام الافتخار على المطيعين كما نطقت به كتبكم، أو إن صح ما زعمتم فلم عذبكم بالمسخ الذي لا يسعكم إنكاره، وعدّ بعضهم من العذاب البلايا والمحن كالقتل والأسر، واعترض ذلك بأنه لا يصلح للإلزام فإن البلايا والمحن قد كثرت في الصلحاء، وقد ورد «أشد الناس بلاءًا الأنبياء عليهم السلام ثم الأمثل فالأمثل»، وقال الشاعر:
ولكنهم أهل الحفائظ والعلا *** فهم لملمات الزمان خصوم
وقوله تعالى: بَلْ أَنتُم بَشَرٌ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ليس الأمر كذلك {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} وإن شئت قدرت مثل هذا في أول الكلام وجعلت الفاء عاطفة، وقوله سبحانه: {مّمَّنْ خَلَق} متعلق حذوف وقع صفة {بُشّرَ} أي بشر كائن من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم.
{يَغْفِرُ مَن يَشَآء} أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم المؤمنون به تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذبه وهم الذين كفروا به سبحانه وبرسله عليهم السلام مثلكم، والذي دل على التخصيص قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] إن قلنا بعمومه كما هو المعروف المشهور، ومن الغريب ما في «شرح مسلم» للنووي أنه يحتمل أن يكون مخصوصًا بهذه الأمة وفيه نظر. هذا وأورد بعض المحققين هنا إشكالًا ذكر أنه قوي وهو أنه إذا كان معنى {نَحْنُ أَبْنَاء الله} تعالى أشياع بنيه فغاية الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقًا للتبعية لكن من أين يلزم أن يكونوا من جنس الأب كما صرح به الزمخشري في انتفاء فعل القبائح، وانتفاء البشرية والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم بشر ممن خلق، نعم ما ذكروه في هذا المقام من استلزام المحبة عدم العصيان والمعاقبة را يتمشى لأن من شأن المحب أن لا يعصي الحبيب ولا يستحق منه المعاقبة، ومن هنا قيل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
وفيه مناقشة لأن هذا شأن المحبين والأحباء هم المحبون، وأجاب عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتًا لمطلق البشرية ليجب أن يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر، ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصي والمطيع والمستحق للمغفرة والعذاب لا كما ادعوا من أنهم الأشياع المخصوصون زيد قرب واختصاص لا يوجد في سائر البشر ولذا وصف بشرًا بقوله سبحانه: {ممن خلق} حتى لا يبعد أن يكون {يغفر لمن يشاء} أيضًا في موقع الصفة على حذف العائد أي لمن يشاء منهم، وأما إشكال الجنسية فقيل في جوابه: المراد أنكم لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم على صفتهم في ترك القبائح وعدم استحقاق العذاب لأن من شأن الأشياع والأتباع أن يكونوا على صفة المتبوعين، والمتبوعون هنا هم الأبناء بالزعم، ومن شأن الأبناء أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأتباع أن يكونوا على صفة الأب بالواسطة، وقيل: كلام من قال: يلزم أن يكونوا من جنس الأب على حذف مضاف، أي لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم من جنس أشياع الأب يعني أهل الله تعالى الذين لا يفعلون القبائح ولا يستوجبون العقاب.
وفي الكشف أن قولهم: {نحن أبناء الله} تعالى فيه إثبات الإبن، وأنهم من أشياعه مستوجبون محبة الأب لذلك فينبغي أن يكون الرد مشتملًا على هدم القولين فقيل: من أسندتم إليه البنوة لا يصلح لها لإمكان القبيح عليه وصدوره هفوة ومؤاخذته بالزلة ودعواكم المحبة كاذبة وإلا لما عذبتم، وأيضًا إذا بطل أن يكون له تعالى ابن بطل أن يكون أشياعه، وكذلك المحبة المبنية على ذلك، ثم قال: وجاز أن يقال: إنه لإبطال أن يكونوا أبناءًا حقيقة كما يفهم من ظاهر اللفظ أو مجازًا كما فسره الزمخشري اه.
وأنت تعلم أن كل ما ذكره ليس بشيء كما لا يخفى على من له أدنى تأمل، وما ذكرناه كاف في الغرض. نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيهًا لا بأس به، وهو أن اللائق أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل إليهم الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق، وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضي كرامة لا كرامة فوقها، كما أن الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد جنده ولآخرين ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم وبين غيركم عند الله تعالى، فإنه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم، وكذا على كونه عنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى، والجواب عن المناقشة التي فعلها البعض يعلم مما أشرنا إليه سابقًا فلا تغفل.
{وَلله مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} من تتمة الرد أي كل ذلك له تعالى لا ينتمي إليه سبحانه شيء منه إلا بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف يشاء إيجادًا وإعدامًا، إحياءًا وإماتة، إثابة وتعذيبًا فأنى لهؤلاء ادّعاء ما زعموا؟! ورا يقال: إن هذا مع ما تقدم ردّ لكونهم أبناء الله تعالى عنى أشياع بنيه، فنفى أولًا كونهم أشياعًا وثانيًا وجود بنين له عز شأنه {وَإلَيْه المصير} أي الرجوع في الآخرة لا إلى غيره استقلالًا أو اشتراكًا فيجازي كلًا من المحسن والمسيء بما يستدعيه عمله من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9